الاثنين، 4 يونيو 2012

(7) رجلٌ من الهــند عشقها!.. Dr.Tariq Ali






جاء مع زوجته وأولاده من الهند إلى مكة في عهد الملك عبد العزيز ـــ رحمه الله ـــ بمهنة ممرض، فعمل في مستشفى بها للحكومة الهندية، كان يقدس عمله وأسرته تقديسا ليس له نظير، فهما كل شيء في حياته، وبحكم قرب بيته من المسجد الحرام كان يرتاد إليه ويطوف بالكعبة المشرفة، كثر ارتياده إلى المسجد الحرام وطوافه بالبيت العتيق، وفجأة تعلق قلبه به، فصار لا يصبر عن الذهاب إليه، ازداد تعلقه، فصارت عادته أن يبدأ بالطواف كل يوم في الصباح قبل ذهابه إلى العمل، ويختم بالطواف بعد الظهيرة قبل رجوعه إلى البيت، ازداد تعلقه، فخصص وقتا ثالثا، فكان يصلي يوميا المغرب فيه ثم يطوف إلى العشاء فيصليها ثم يعود إلى البيت، ازداد تعلقه، فكان أحيانا يقوم في نصف الليل ويذهب إليه، عشق المسجد الحرام وعشق الكعبة المشرفة وعشق مكة، فأضاف إلى قائمة المقدسات لديه ثالثا ورابعا وخامسا.

لم يكن يظن أبدا أن قوة تستطيع أن تحول بينه وبين معشوقاته الثلاثة، حتى حصل ما ليس في الحسبان، وجهت إليه الحكومة الهندية رسالة تشعره بانتهاء عقده، وتطالبه بالرجوع إليها، وقع الخبر عليه وعلى أسرته المكونة من زوجته وأولاده الصغار غالبهم من البنات كالحكم بالإعدام، فبلا أدنى تفكير أو تردد رفض الامتثال، كرر توجيه الرسالة، فازداد إصرارا، فصارت ترد حاملة إنذارات بفصله من العمل، لم يبال ولسان حاله يقول : فليفعلوا ما شاءوا فلن أترك مكة ولن أعيش في غير كنف الكعبة، ذاع موقفه العنيد وسط الجالية الهندية، فاستدعاه نائب القنصل الهندي وكلمه في إعادة النظر، لم يتزحزح عن موقفه قيد أنملة، وقال كلمته المشهورة، فعندما اجتمع بنائب القنصل في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة وحول القنصل جمع غفير من أهل الهند، وأخبره النائب بتهديد الحكومة الهندية بفصله من العمل، قال : يا سيدي لن يخرجني من هذه البلدة لا أنت ولا الحكومة الهندية، وإنما الذي يخرجني منها رب هذا، ورفع يده مشيرا بسبابته إلى الكعبة المشرفة، فأدرك النائب أنه يخاطب صخرة.

فصل من مهنته، فصار عاطلا بلا عمل، وعلى ظهره مؤنة أسرة كثر عدد أفرادها بولادات جديدة. كانت علاقته جيدة بالمرضى الذين كان يحقنهم أيام عمله ممرضا في المستشفى، فطلبوا منه أن يمر عليهم في بيوتهم لحقنهم، فكان يركب دراجته ويمر على بيت بيت في الوديان والجبال ليعطيهم الحقن، وكانوا يجودون عليه بالنذر اليسير، وكثير منهم كان ضيق الحال فكان يعفيهم من الأجرة مقابل أن يدعوا له ولأولاده، كان قوي الاعتقاد بالله، صادق التوكل عليه، بأنه لن يترك من ضحى بكل شيء لأجل مجاورة أحب البقاع إليه وأطهرها، فكان اعتماده في تلك المرحلة من حياته على صدق التوكل عليه سبحانه وتعالى ثم اتخاذ بعض الأسباب من الدعاء بذاته وبتكليف أسرته كبارا وصغارا بذلك ثم إعطاء الحقن والاقتيات بما يأخذه مقابل ذلك وإن كان لا يفي باحتياجات أسرته الكبيرة العدد.

كانت بناته الصغار يرفعن أكفهن الصغيرة بعد الصلوات والطواف وأوقات الأسحار يدعون لوالدهن العزيز بالفرج، فقد اشتد الضيق بالأسرة حتى بدا وظهر للصغار صعوبة العيش بهذه الطريقة مع محاولة الوالدين إخفاء ذلك عليهم، فأدركوا أن الحالة عصيبة جدا، ولكن لا فرار منها، فهي ضريبة تمسكه بهذه الأرض، وضريبة عشقه إياها والمسجد الحرام والكعبة، لم يكونوا معارضين أو معترضين على موقفه، بل بالعكس كانوا مؤيدين له كامل التأييد، إذ أن عشق هذه الأشياء تربع في قلوبهن الصغيرة الطاهرة كما تربع في قلبي والديهن، فكانت الأكف الصغيرة التي ترفع للدعاء إلى الله بعدم إخراجهم من هذه الأرض وبالفرج لوالدهن لم تكن ترتد إلا وهي مليئة بالدموع، دموع من أعين صغيرة في وجوه صغيرة في أجسام صغيرة.

المرضى كانوا يدعون له، والذين كان يعفيهم من مقابل الحقن لضيق حالهم كانوا يدعون له، وأطفاله الصغار دموعهم على خدودهم من كثرة الابتهال، وزوجته التي كانت تخفي دموعها وراء ابتساماتها لرفع معنويات الأسرة كان موعدها مع الدعاء في المسجد الحرام وقت السحر، أما هو فكان كثير التشبث بأستار الكعبة والملتزم : أن يتقبل الله تضحيتهم بالحياة لأجل أرض ومسجد وبيت. فيا ترى هل كان لذلك أثر ؟

مكة حرسها الله كانت ولا زالت مليئة بأهل الخير الذين نصبهم الله لقضاء الحوائج، ومن هؤلاء رجال كانوا يعرفون ذلك الرجل، ويدركون عظيم تضحيته، والطيور على أشكالها تقع، فسعوا في مساعدته عند ولاة أمر هذه البلدة المباركة، فتحصل على وظيفة، وكان هذا فرجا مشعرا وممهدا لمجيء فرج أعظم منه، كقطرات المطر تسبق الوابل، فسعى أهل الخير كذلك ــ والله لا يضيع عمل العاملين والمحسنين ــ، حتى جاءت الموافقة من الحكومة العلية السعودية بمنح ذلك الهندي الجنسية السعودية.

توظف في الوحدة الصحية المدرسية، وبارك الله في أولاده سواء الذين ولدوا قبل الجنسية السعودية أو بعدها، وأغدق عليهم الخيرات والبركات، وبارك في رزقه، ووسع في عيشه، وأقبلت عليه الدنيا بوجه باسم بعد طول عبوسها، ووفقه الله لتربية أولاده الذكور والإناث وتعليمهم أحسن التعليم، وحصل التعويض عما فات فوق كل تصور وتوقع، ومن المعلوم أن الكريم إذا أعطى فاق عطاؤه عقول السائلين.

توظف الكبار من أولاده بعد إكمالهم التعليم، فزاد الخير حتى استقل الجميع بمسكن (فيلا) يمتلكونه، بعد تنقلاتهم العديدة في مساكن الإيجار، وانتعش الحال كثيرا، حتى ارتقت الأسرة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الغنية، وصار الجميع يتذكر الأيام الخوالي كذكرى مريرة في حياتهم، وصار الأولاد كثيرا ما يقلبون عيونهم في أكفهم قائلين كانت هذه الأكف يوما ما صغيرة لكنها كانت تمتلئ بالدموع، فالحمد لله الذي استجاب دعاءنا وأبقانا بمنه وفضله جيران مسجده وبيته.

لم يتم ذلك الرجل في مسكنه الجديد المملوك سنة بتمامها، فقد أدى رسالته على أكمل وجه، وأنقذ الباخرة الكبيرة من الغرق، وجرها حتى أوصلها إلى ساحل الأمان، فلم تبق في قلبه حسرة على شيء سوى تخوف من الموت خارج هذه الأرض التي ضحى لأجلها ما ضحى، فاستجاب الله دعاءه كذلك، وقبل إتمام سنة من سكناه بالمسكن الجديد كانت المعلاة ــ مقابر أهل مكة ــ تضم جسده، وقلبه مطمئن لطول نومه في جوف الأرض التي أحبها، ولكون أولاده الصغار الذين عاشوا حياة تعيسة وحرموا من طفولتهم، يعيشون حياة الرخاء والرغد والسعة، والأموال بين أيديهم، وكراسي المناصب تحتهم، والصغار الذين لا زالوا في طريق التعلم سيلحقونهم بإذن الله.

الكثير لم يكن يعرف عن هذا الرجل، وعن حياته، وعن تضحيته لمعشوقته مكة، وعن قوة اعتقاده بالله، وصدق توكله عليه، حتى مضى على وفاته خمس وعشرون سنة فقام أصغر أولاده وآخرهم رؤية له بالكتابة والتعريف عنه في حسابه الخاص على الفيس بوك..........أعرفتم من هذا الرجل ؟. نعم إنه هو... رجل من الهند عشق مكة.

(6) النظارات السوداء وانقلاب الحقائق!.. Dr.Tariq Ali






عندما وضعتُ العَدَسات الشمسية السوداء على نظارتي الطبية أولَ مرة لم أَعُدْ أرَ الحقيقةَ، وإلى الآن كلما أَضَعُها يَتَعَكَّرُ الصفاءُ، فأرى الخارجَ مُظلِما مُخيفا أسودَ، فلا الوجودُ هو ذاك الوجودُ، ولا الوجوهُ هي تلك الوجوهُ، وإذا نَزَعْتُها عادَ كلُّ شيءٍ إلى صفائِه، فأرى الوجودَ صافيا واضحا ناصعا، وأرى الوجوهَ بيضاءَ نقيَّةً.

كثيرٌ من الأشياءِ وُضِعَتْ مُقابِلَها النظاراتُ السوداءُ على العيون، فلا تراها العيون إلا سوادا في سواد.

كثيرٌ من الناس يَلبسُون نظاراتٍ سوداءَ عندَ رؤيتِهِم مفاهيمَ ومبادئَ مُعيَّنةٍ، فالراقي منهم يُخَطِّئُ هذا المفهومَ، والمُتَوَسِّطُ الرُّقِيِّ يُحَذِّرُ منه، وفاقِدُ الرُّقِيِّ بالكُليةِ يُحارِبُه، في حِينِ أنّ هذه المفاهيمَ والمبادئَ قد تكونُ صحيحةً في ذاتِها، أو صحيحةً عندَ مَن تَبَنّاها وَفْقَا لظروفِه، أو على الأقل صحيحةً بوجهٍ من الوُجوه، إذا لَبِسنا نظارةً سوداءَ تُجاه مفهومٍ من المفاهيم، فلماذا لا نُفكِّرُ في نَزْعِها كذلك؟ ها نحن قد نظرنا إليه بالنظارةِ السوداءِ، فَلِمَ لا نُجَرِّبُ النظرَ إليه مِن غيرِها ؟، أو المسألةُ أننا إذا اتّخَذْنا موقِفا سلبيَّا مِن مبدأٍ من المبادئ أو مفهومٍ من المفاهيم يَصْعُبُ علينا التزحْزُحُ من موقِفِنا ؟ (أُسمّي هذا النوعَ من المواقِفِ بالجُمودِ، بل بالغُلُوِّ في الجُمود).

كثيرٌ من الناس يَسْتَقُونَ معلوماتِهم مِن قَنَوَاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ تُعَدُّ في غايةِ السَّذاجَة والسطحِيَّةِ والبِدائِيَّةِ ـــ كأغلبِ قنواتِ التعليمِ النظامي مثلا، أقولُ أغلبُ لا كلُّ ـــ، يا سادةُ : التعليمُ النظامي أغلبُ قنواتِه تُسَلِّطُ الأضواءَ على القضايا فقط دونَ الإحاطةِ بها، خصوصا فيما يتعلق بالجانِب النظري، فلا يَظُنَّنَ أحدٌ أنَّ ما تَحَصَّلَه من معلوماتٍ من خلال المناهجِ التعليميةِ يُغنيه عن البحثِ والتنقيبِ والتفتيشِ فيها، فمثلا يَظُنُّ البعضُ أنَّ المسائلَ المطروحةَ في منهج النحو والصرف تَجْعَلُ منه سيبويهَ، أو أنه أخذَ بزِمامِ وخِطامِ علم النحو والصرف، في حِينِ أنّ تلك المسائلَ لا تُؤَهِّلُ دارِسَها إلا لأنْ يكونَ طالبا مُبْتَدِأً في مدرسة النحو والصرف.

وخُذْ مثالا آخر: مناهج التاريخ، فيظنُّ البعضُ أنَّ القُصاصاتِ والمُرَقَّعاتِ الموجودةَ في المنهج عن معركةٍ من المعارك أو حادثةٍ من الحوادث أو دولةٍ من الدول مُسْتَوفِيَةٌ مُحيطةٌ بها، أو أنّ السِّيَرَ المُختصَرةَ للأعلام فيها كافيةٌ للتعرُّفِ جيدا عليها، في حِينِ أنها لا تَعدُو أن تكونَ مُختصَراتٍ مُعتصَراتٍ من المصادر الأصلية، غُرْبِلَتْ غَربلةً يسهُلُ البَلْعُ معها، وقِسْ على ذلك بقيةَ المناهج، ثم قِسْ على ذلك بقيةَ القنواتِ السطحيَّةِ، كالقنواتِ المرئية أو السمعية أو الصحف والمجلات.

يا سادة : من أرادَ المعلومةَ صحيحةً كاملةً مُحيطةً مُستغرِقةً فعليه أنْ يُلازِمَ أوّلا أهلَ الاختصاصِ ويأخُذَ عنهم، ثم يَغوصُ في كُتبِهم، ولا يكتفي بمَرجِع ولا مَرجِعين ولا ثلاثة، وإنما يَجري وراءَ المعلومةَ رافِعاً عن مُحَيَّاها سِتارا ستارا حتى تَبدوَ طلعتُها كطلعة الشمس، وبعدَ هذا كلِّه يَضَعُ احتمالا أقَلُّه نِصفٌ في المئة بأنَّ ما تَوَصَّلَ إليه عن هذه المعلومة قد يكونُ خطأً، لأنَّ ما تَوَصَّلَ إليه وإنْ كان بَعْدَ سَبْرِ الأغوار إلا أنه لا يَعْدُو أن يكونَ اجتهادا شخصيا، والاجتهاداتُ الشخصية لا يُقالُ وراءَها (صدق الله العظيم)!..

فافهموا أوّلا هذه المقدمةَ حتى تفهموا الباقي. لكنّنا مُجتمَعٌ تَعَوَّدَ على التقليد والترديد، ما قالَه آباؤنا أو مُعَلِّمُونا أو أهلُ بلدتِنا تَنْشَلُّ عندَه العقولُ وتَخْوَى أمامَه القُوى الفكريةُ وتَخْمَدُ له الطاقاتُ البشريةُ، فَنَحتوي قولَهم بالتقليد، ثم نتحوَّلُ إلى ببغاواتٍ ونُردِّدُ قولَهم مِن غيرِ تمحيصٍ ولا تحقيقٍ ولا تفتيشٍ ولا تنقيبٍ ولا في التفَكُّرِ فيه مرَّةً في عُمْرِنا. لماذا نتغافلُ عن الضوابطِ العِلميَّةِ والموازينِ العقلية أمامَ المعلوماتِ الطائشة؟، أنا لا أُشَكِّكُ في القنوات التعليمية أو المعرفية، سواءً كانت تلك القنواتُ في شكل أُسرةٍ أو مؤسسة تعليمية أو ثقافةِ مجتمعٍ، وإنما أُحاول تأسيسَ منهجيةٍ علميةٍ للتعاملِ مع المعلومات.

مؤسساتُنا التعليميةُ لم تَأْلُ جُهداً في جمع المعلومات، وتسهيلِها للطلاب، ولكنْ مهما فَعَلَتْ فهي لا تعدو أن تكونَ شخصيةً تُعَبِّرُ عن رأيِها، ومِن حقِّ العقل والعلم أن يُخالِفَها بكلِّ احترامٍ وبلا ازدراءٍ، كذلك المجتمع، ربما لا يُحبِّذُ رؤيةَ الشمس، أو تَعَوَّدَ على عدمِ رؤيتِها، لكنْ لا يَحِقُّ له أنْ يمنعَ مَن حاولَ خلعَ نظارتِه السوداء لرؤيتِها. الحقائقُ كالشمسِ ساطعةٌ، تَحولُ بينَنا وبينَها نظاراتُنا السوداءُ.

(5) اكتب اسمك على جذع الشجرة.. Dr.Tariq Ali






الذين استظلوا بظل شجرة، وأكلوا من ثمارها، وترنموا بتغاريد البلابل عليها كثيرون، وكلهم قد فارقها ومضى، ولا يذكر اللاحق منهم السابق، لأن السابق كما مضى بشخصه مضى باسمه، فلا هو مخلد ولا اسمه مخلد، أما الذين زرعوا هذه الشجرة، أو شاركوا في زراعتها، أو حافظوا عليها بالاعتناء بها، فأسماؤهم محفورة في جذعها، مكتوبة على أوراقها، ممزوجة بماء ثمارها.

كفانا استظلالا بالأشجار، والعيش على حساب الآخرين، والاستفادة من جهودهم، دون أدنى شعور وإحساس بالمسئولية المشتركة، غيرنا يبنون الأمجاد والحضارات، ويتقدمون إلى الأمام، وليس لنا من الحظوظ إلا العيش على مخلفاتهم، والرضى بالاستظلال تحت جهودهم، لم لا نبني المجد، لم لا نشارك في بناء الحضارة الإنسانية الراقية، أو على الأقل لم لا نحافظ على ما تبقى لنا من كل معنى سام يكيل في كفة الإنسانية، لم نحن عالة على غيرنا، لم نقول (غيري يقوم به).

لم لا نقوى لقول (أنا)، لم ترتفع الأصابع مشيرة في اتجاهات متعاكسة عند كل نداء للعمل، لم لا ترتفع مشيرة إلى صدورنا، متى نستشعر بالمسئولية، مسئولية الإضافة والإفادة بدلا من الاستغلال والاستفادة، لم لا نحمل بين أضلعنا قلبا قويا يضخ دما متجددا إلى عدة أجيال، لم لا نتحرر من عبودية الراحة إلى حرية التعب، إلى متى نعيش لأنفسنا، أما تعبنا من النظر إلى ذواتنا، أما كلت ألسنتنا من قول (أنا)، لم لا نعيش لغيرنا، لم لا نعيش لتحقيق أهداف عامة، بدلا من المصالح الشخصية، متى نفرغ للوقوف للحظة نرى سيلان دمعة من مقلة طفل تشتاق عينه إلى رؤية شيء اسمه أب أو أم، ويتململ لسانه لنطق (أبي أو أمي)، حكم عليه الزمان في مهده باليتم.

متى نفرغ للتجسس على أبواب نسمع من ورائها آهات أرملة تنهدت عندما تيقنت بعجزها عن السير بمفردها في ردهات الحياة المظلمة، وحولها مخلوقات مركومة يتضاغون من الجوع، متى نفرغ لسحب العصا من يد زوج جرأه الجهل والتخلف على حملها ليرسم آثار جهله على ظهر من تقول الملائكة عند ولادتها باسطة أجنحتها (ضعيفة خرجت من ضعيفة) ليس لها ذنب سوى أن والدها قال لزوجها: (وثقت فيك يا بني، فخذ حبة قلبي وأميرة بيتي وتاج رأسي أمانة لديك) وسلم المجني للجاني بيديه.

متى نفرغ لمعاناة الناس، متى نكون رحمانيين مشفقين نرحم ونشفق مستحقي ذلك، في الحقيقة عجزنا كريه المنظر قبيح مقزز فنهرب منه بالتخلص من المسئوليات، يا سادة : حل مشاكل الحياة مسئولية من يعيش فيها، واحتواء المحتاجين مسئولية المستغنين، وتعليم الأجيال اللاحقة تبني المسئوليات دون الفرار منها مسئولية الأجيال السابقة، وبناء الإنسان الكامل أو المشاركة في بنائه أو الاحتفاظ عليه مسئولية الإنسان، وبناء الحضارات والأمجاد وإيجاد الثقة في النفوس مسئولية العظماء.


(4) أحكام النفس مؤلمة.. Dr.Tariq Ali





لا نُنكِرُ ـــ استكبارا ـــ أنّ كلَّ واحدٍ منّا عاش فترةً ليست بالقصيرة على 
مبادئ ومفاهيم ثَبَتَ بِتقدُّم عمره وكثرةِ تجارِبه أنها خاطئة.... رجاءً فَلْنَكُن صادقين ولو لمرة واحدة.

وهذه المبادئ والمفاهيم مخزونةٌ في عقولنا، في ذواتنا، في قلوبنا، نَتَعايشُ معها يوميا في كل وقت، وها نحن في آخر المطاف نُقِرُّ ونعترف بأنها كانت خاطئة.

فلماذا لا يكون حُكْمُنا على الآخرين في بعض الأحايين أو أكثرِها خاطئا ؟
ليس الغريبُ أن تَصْدُرَ عن الواحد مِنّا بعضُ التصرفات بدافعٍ من الدوافع الكثيرة، ولكنّ الغريب أنْ نُحَلِّلَ مواقِفَنا بتحليلات منطقية.

هل الأدلّة تُطلبُ لِنَسْتَنْبِطَ منها معرفةَ ما نجهلُه ؟ أم تُطلبُ لتعزيز وتأييد العَفَوِيّات؟.

ما سُمِّيَ الدليلُ إلا لأنه يَدُلُّ الجاهلَ إلى ما يُريد معرفتَه، فنحن إذا جهِلنا أمرا طلبناه في الدليل المشتمِلِ عليه، ولكنْ لا أحدَ يقول إنّ الدليلَ سُمِّيَ لِتبرير ما وَقَعَ عَفَوِيّا مِن قول أو فعل أو فكر.

فلماذا لا نُقِرُّ أنّنا كثيرا ما خدعنا أنفسَنا عند تحليل مواقِفِنا بالتماسِ الأدلّة ثم التكلُّفِ في تنسيقها وترتيبها حتى تكونَ مُلائمةً لتصرفاتنا العَفَوِيّة والعشوائية الخاطئة ؟

وإذا ثَبَتَ أننا أخطأنا في تبرير تصرُّفاتنا وتحليلِ مواقفنا، فلماذا لا نكون خاطئين ـــ أحيانا أو كثيرا ـــ في تبرير تصرفات الآخرين وتحليل مواقفهم؟
في نَظَري : ليس الجريءُ مَنْ صَدَقَ مع الآخرين، إنما الجريءُ مَن صَدَقَ مع نفسه.

وذلك لأن المرء مِنّا يغلِبُ على ظنه أنّ الآخَرين يتسامحون معه إما حِفاظا للعلاقات العامة أو للمجاملات أو حُبّاً في التسامح، لكنه على يقين أنه لن يستطيع أن يَصْمُدَ كثيرا أمام مَحكمة النفس والضمير................أتدرون لماذا ؟

لأن أحكام النفس على النفس مؤلمة!..


(3) صراع الأجيال.. Dr.Tariq Ali





نحن جيل له فكره وثقافته وعاداته وظروفه ومستجداته، ومن بعدنا جيل له فكره وثقافته وعاداته وظروفه ومستجداته التي تفوق مستجداتنا، شكوى الجيلين الآخر أمر يكثر وقوعه في بيوتنا، وهذا ما أسميه دائما بــ (صراع الأجيال)، ونسبة ترفع الجيل اللاحق إلينا ضئيلة جدا، فلننزل نحن إلى جيلهم، يا سادة يا كرام نحن الكبار وهم الصغار، نحن الأكثر تجربة وخبرة فلنكن أكثر مرونة واحتواء، فلنحرص على ألا نخسر جيلهم بسبب التعصب لجيلنا، لا ننتظر منهم أن يمدوا يد التقارب، لأن زمانهم يفرض عليهم أن يلائموه ويجاروه كي يعيشوا فيه، كما لاءمنا وجارينا زماننا كي نعيش فيه، فلنمد نحن أيدينا إليهم للتقارب، ونستبدل (صراع الأجيال) بــــ(وفاق الأجيال). 

(2) أحوال العاشقين.. Dr.Tariq Ali










أحوال العاشقين غريبة جدا، فذاك يقبل جدران الأطلال لأنها تشرفت 
بإحاطة محبوبه :
أمر على الديار ديار ليلى..
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا..
وما حب الديار شغفن قلبي..
ولكن حب من سكن الديارا..

وهناك من يعشق الأطلال نفسها لأنها كانت موضع محبوبه :
ومن مذهبي عشق الديار لأهلها..
وللناس فيما يعشقون مذاهب..

وهناك من يحسن إلى الكلاب لأنها كانت جيران محبوبهم :
رأى المجنون في البيداء كلباً..
فجلله من الإحسان ذيلا..
فلاموه على ما كان منه..
وقالوا: لِمْ أنلت الكلب نيلا..
فقال: دعوا الملام فإن عيني..
رأته مرة في حي ليلى..

فمن لوازم العشق التعلق بآثار المحبوب، والطرب بذكراه، اليوم يوم مولد خير وأحب خلق الله إلى الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ، فأين عاشقوه ؟ فهذا أثر من آثار محبوبنا الحقيقي لا المجازي، فما هي مظاهر تمسكنا بهذا الأثر العظيم ؟ وكيف يكون طربنا بذكراه ؟، كل يعبر عن حبه وهيامه به صلى الله عليه وسلم بطريقته، والكل مأجور إن شاء الله، لكن إن سمحتم لي أن أعبر عن ذلك بطريقتي قلت : بكثرة قراءة حديثه الشريف، لا تنسوا أن هذه الكلمات التي حفظتها لنا دواوين السنة نبست بها شفتاه الشريفتان، وتحرك بها لسانه الأطهر، البعض منا يقطع آلاف الأميال لرؤية أثرا من آثاره الشريفة في المتاحف العالمية، ما دعاهم لذلك إلا صدق محبتهم له صلى الله عليه وسلم، وهم مأجورون في سفرهم هذا، ولكن ألومهم في هجرهم أثره الأكثر أثرا في النفوس وهو حديثه صلى الله عليه وسلم، وهو بين يديهم، فلنفرح به صلى الله عليه وسلم وبمولده ونشتاق إليه كما هو مشتاق إلينا، ولنطرب لذكراه وسيرته واستماع كلامه، حديثه الشريف مناجاته لأمته.

تنبيه : هناك أحاديث ذكرتها في تعليقي على مشاركة الأستاذة الفاضلة والكاتبة المتألقة داليا عبد الوهاب تبين لنا مدى اشتياقه صلى الله عليه وسلم إلينا، أحيلكم إليها كراهة التطويل عليكم في ملاحظتي هذه. وكل عام وأنتم بخير.

(1) تعاملنا وقيمنا.. Dr.Tariq Ali





لكل شخص قيمته الواقعية ووزنه الحقيقي ، وسلوكنا الإيجابي معه لن يضيف إلى تلك القيمة وذلك الوزن ، وسلوكنا السلبي معه لن يسلبهما أو ينقصهما منه ، نعم سلوكياتنا الإيجابية معهم تضيف إلى قيمنا وأوزاننا ، وسلوكياتنا السلبية معهم تسلبهما منا أو تنقصهما ، البعض منا يكثر في تعاملاته مع الآخرين ولا يدري أنه يخسر قيمته وينتقص وزنه ، والأعجب من هذا أن البعض يظن في تعامله أنه يرفع قيمته ويزيد وزنه والواقع خلاف ذلك ، مثل بعض الناصحين بأساليب مقززة ومنفرة ، النصيحة رفعة في قيمة الإنسان وزيادة في وزنه ، والخطأ في أدائها خسران ومنقصة .