الثلاثاء، 5 يونيو 2012

(8) المثالية في الحب.. Dr.Tariq Ali





الحب، أو حب الشيء، ترجمته بلغة التطبيق أو الواقع أو التفعيل هي (امتلاك المحبوب)، هذه هي الترجمة الدارجة، أو المألوفة المشهورة، أو المعمول بها في شريحة المحبين، لا أقول أبدا إن هذه الترجمة خاطئة، رجاء تذكروا رأيي هذا إلى نهاية مقالتي هذه، أنا (لا أقول أبدا إن هذه الترجمة خاطئة)، ولكني أقول إن هذه الترجمة خاطئة إذا كانت على وجه الإطلاق، أو أقول بخطأ قصر أو حصر ترجمة الحب بــــ (امتلاك المحبوب)، أو أقول بخطأ ادعاء عدم وجود ترجمات أخرى للحب غير المذكور، يا سادتي : قد يترجم الحب بأمر آخر وهو (ترك المحبوب، أو الابتعاد عنه، أو تخلية سبيله، أو عدم تملكه)، أعني أنه ليس من اللازم أن يمتلك المحب محبوبه، بل قد يعبر عن الحب بأرق المعاني وأدق الأحاسيس من خلال البعد عن المحبوب أو تركه أو عدم تملكه، ثم بعد هذه المقدمة، وقبل الشروع في المقصود، أحب أن أنبه الجميع إلى أن المحبوب في كلامي أعم من أن يكون بشرا.

هناك ما يسمى بالحب، وهناك ما يسمى بالأدب في الحب، أو الفضيلة والمثالية في الحب، لكن للأسف الشديد أن الحب إذا امتلك قلب الشخص أو تربع على عرشه أو نفذ من  شغافه إلى سويدائه، ألهمه بعدم تحمل البعد عن المحبوب، أو صعوبة العيش بدونه، إلهاما يصرف نظره تماما عن قضية الأدب في الحب أو المثالية فيه، حتى تبدأ مرحلة المساعي واتخاذ الحيل والتسبب المفرط في امتلاك المحبوب.

لكني أريد أن ألفت أنظار المحبين قبل مباشرتهم الأسباب لهذا النوع من التملك إلى التوقف هنيهة والتفكر في قضية المثالية والفضيلة، والإجابة على هذه الأسئلة:

1 ــ هل مثلك جدير وأهل لأن يمتلك مثله؟

2 ــ أو هل مثله جدير وأهل لأن يمتلكه مثلك؟

3 ــ أو هل مثلك جدير وأهل لأن يفي بقيمة وقدر مثله؟

4 ــ أو هل مثلك جدير وأهل لأن يحافظ على سر وسحر جاذبية مثله؟.

كثير من المحبوبين ضاعوا وأوذوا وأهينوا وذلوا على أيدي محبيهم ـــ طبعا بعد تملكهم إياهم ـــ، وكثير من المحبوبين ضاعت عليهم فرص إسعاد الآخرين لوقوعهم سجناء وأسرى في أغلال محبيهم، وكثير منهم كان الغير يستطيع أن يمنحوهم قيمتهم وقدرهم ووزنهم الحقيقي لولا وقوعهم في شراك محبيهم، وكثير منهم زالت أو تلاشت مميزاتهم وخصائصهم التي تتهافت القلوب إليهم لأجلها بعدما سلموا أنفسهم لمحبيهم، كثير منهم نادم على أنه كان يوما ما محبوبا، كثير منهم يشك في مصداقية الحرفين الحاء والباء.

يرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى كراهية السكنى بمكة، هل لنقص في مكانتها ؟ حاشاه وحاشاها، وإنما حب مكة قاد الإمام إلى الأدب مع المحبوب، والأدب مع المحبوب تارة يقتضي تركه والابتعاد عنه خوفا من إساءة الأدب معه. لسنا في صدد مناقشة المسألة فقهيا، وصف آرائنا بجانب رأي الإمام، وإنما نحن في صدد ضرب أمثلة للشعور الراقي اتجاه المحبوب.

كانت والدتي رحمها الله رحمة الأبرار عندما تخرج  للبحث عن زوجات لأبنائها تشترط شرطا غريبا، وهو ألا تكون الفتاة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، هل لنقص في مكانتها ؟ حاشاها وحاشاها، التصاهر مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم شرف لا يضاهيه شرف، ولكن حبها لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قادها إلى الأدب مع المحبوب، فخافت أن يسيء أبناؤها معاملة (الشريفة أو السيدة أو المنسوبة) فتقع ويقعون في إساءة الأدب مع المحبوب أو عدم تعظيمه وإعطائه المكانة اللائقة به.لسنا في صدد مناقشة رأيها وموقفها، وإنما نحن في صدد ضرب أمثلة لترجمة الحب ترجمة غير مألوفة.

فقير أحب فتاة غنية ثرية، علمت عن حبه فبادلته الشعور، وزادت قصة حب جديدة على القصص الطافحة المخزونة في مكتبات أذهاننا، وفجأة اختلق الفقير أمرا أسقطه من عيني محبوبته الغنية، هجرته باكية، وهجرها باك، ثم ضحكت عندما تزوجت من كفئها، وظل باكيا طول حياته، وعندما سئل لم اختلقت ما أوجب الهجر والبكاء ؟ أجاب : رأيتها سعيدة في بيت أبيها سعادة لا أستطيع أن أجلب لها ربع عشرها، فأحببت أن لا يحصل فارق في سعادتها، فخليتها حتى تموت سعيدة كما عاشت سعيدة، لسنا في صدد تصويب أو تخطئة قرار الفقير، وإنما نحن في صدد ضرب أمثلة لنماذج  المتأدبين مع المحبوبين.

من باب إذا ذكر السادة ذكر الخدم أقول : كنت قبل أمس في المعرض الدولي للكتاب بالرياض، فوقعت عيني على كتاب في علم التربية وقع عين رجل آخر عليه، بادرته بأخذه وضمه إلى صدري ثم الهرولة سريعا إلى المحاسب، كي يعلن نكاحي منه فأستره من أعين الغير غيرة عليه، ما أن وصلت إلى المحاسب إلا تبعني ذلك الوقح سائلا المحاسب وهو يشير إلى الكتاب في يدي (هل هناك نسخة أخرى لهذا الكتاب؟) فأجابه المحاسب ما خيب أمله، فرأيت الحزن يكسو وجهه الجميل، فسألته عن سبب حرصه لامتلاك هذا الكتاب، فأجاب بأنه في المرحلة الأخيرة من إعداد رسالة الدكتوراه، ولا ينقصه من المراجع إلا هذا الكتاب، فعلمت أنه لم يكن وقحا وإنما محبا مزاحما في المحبوب، فاستغفرت الله لسوء الظن، ورجعت إلى نفسي محاورا لها وقلت إن هذا الكتاب أحبه حبا شديدا ولكني على يقين أنني إذا امتلكته سيبقى في رف الدولاب لدي مدة ليست بقصيرة حتى يأتي دوره في القراءة، فتبقى معلوماته سجينة ومحبوسة لدي مدة طويلة، وليس لها ذنب سوى أنني أحببتها، ولكن إذا اقتناها هذا الشخص سيسافر بهذه المعلومات من كتابها إلى كتابه، والسياحة جميلة، والتنقل من مكان لآخر له  شعور رائع، فما كان مني إلا أن ناولته هذا الكتاب من شدة حبي له وحبي الأكيد لاستفادة  من هو أجدر مني منه، وحرصي على أن يكون محبوبي دائم التألق والبروز، متمسكا ومحافظا على سر جاذبيته. لسنا في صدد تحليل موقفي هذا، وهل أنا أحمق أو لا عند تنازلي عن محبوبي لغيري، وإنما نحن في صدد إثبات ما نقوله وندعو إليه بالتطبيق. 

الحب لا يحتاج إلى التعلم، وإنما يأتي عرضا فيتمكن من القلب قال الشاعر :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى..

فصادف قلبا خاليا فتمكنا..

لكن نعم.. الأدب في الحب والمثالية فيه غائب عن الكثير منا، فلا يلومني أحد إذا أضعت وقته الثمين في قراءة ملاحظتي هذه.


هناك تعليق واحد: