الاثنين، 4 يونيو 2012

(7) رجلٌ من الهــند عشقها!.. Dr.Tariq Ali






جاء مع زوجته وأولاده من الهند إلى مكة في عهد الملك عبد العزيز ـــ رحمه الله ـــ بمهنة ممرض، فعمل في مستشفى بها للحكومة الهندية، كان يقدس عمله وأسرته تقديسا ليس له نظير، فهما كل شيء في حياته، وبحكم قرب بيته من المسجد الحرام كان يرتاد إليه ويطوف بالكعبة المشرفة، كثر ارتياده إلى المسجد الحرام وطوافه بالبيت العتيق، وفجأة تعلق قلبه به، فصار لا يصبر عن الذهاب إليه، ازداد تعلقه، فصارت عادته أن يبدأ بالطواف كل يوم في الصباح قبل ذهابه إلى العمل، ويختم بالطواف بعد الظهيرة قبل رجوعه إلى البيت، ازداد تعلقه، فخصص وقتا ثالثا، فكان يصلي يوميا المغرب فيه ثم يطوف إلى العشاء فيصليها ثم يعود إلى البيت، ازداد تعلقه، فكان أحيانا يقوم في نصف الليل ويذهب إليه، عشق المسجد الحرام وعشق الكعبة المشرفة وعشق مكة، فأضاف إلى قائمة المقدسات لديه ثالثا ورابعا وخامسا.

لم يكن يظن أبدا أن قوة تستطيع أن تحول بينه وبين معشوقاته الثلاثة، حتى حصل ما ليس في الحسبان، وجهت إليه الحكومة الهندية رسالة تشعره بانتهاء عقده، وتطالبه بالرجوع إليها، وقع الخبر عليه وعلى أسرته المكونة من زوجته وأولاده الصغار غالبهم من البنات كالحكم بالإعدام، فبلا أدنى تفكير أو تردد رفض الامتثال، كرر توجيه الرسالة، فازداد إصرارا، فصارت ترد حاملة إنذارات بفصله من العمل، لم يبال ولسان حاله يقول : فليفعلوا ما شاءوا فلن أترك مكة ولن أعيش في غير كنف الكعبة، ذاع موقفه العنيد وسط الجالية الهندية، فاستدعاه نائب القنصل الهندي وكلمه في إعادة النظر، لم يتزحزح عن موقفه قيد أنملة، وقال كلمته المشهورة، فعندما اجتمع بنائب القنصل في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة وحول القنصل جمع غفير من أهل الهند، وأخبره النائب بتهديد الحكومة الهندية بفصله من العمل، قال : يا سيدي لن يخرجني من هذه البلدة لا أنت ولا الحكومة الهندية، وإنما الذي يخرجني منها رب هذا، ورفع يده مشيرا بسبابته إلى الكعبة المشرفة، فأدرك النائب أنه يخاطب صخرة.

فصل من مهنته، فصار عاطلا بلا عمل، وعلى ظهره مؤنة أسرة كثر عدد أفرادها بولادات جديدة. كانت علاقته جيدة بالمرضى الذين كان يحقنهم أيام عمله ممرضا في المستشفى، فطلبوا منه أن يمر عليهم في بيوتهم لحقنهم، فكان يركب دراجته ويمر على بيت بيت في الوديان والجبال ليعطيهم الحقن، وكانوا يجودون عليه بالنذر اليسير، وكثير منهم كان ضيق الحال فكان يعفيهم من الأجرة مقابل أن يدعوا له ولأولاده، كان قوي الاعتقاد بالله، صادق التوكل عليه، بأنه لن يترك من ضحى بكل شيء لأجل مجاورة أحب البقاع إليه وأطهرها، فكان اعتماده في تلك المرحلة من حياته على صدق التوكل عليه سبحانه وتعالى ثم اتخاذ بعض الأسباب من الدعاء بذاته وبتكليف أسرته كبارا وصغارا بذلك ثم إعطاء الحقن والاقتيات بما يأخذه مقابل ذلك وإن كان لا يفي باحتياجات أسرته الكبيرة العدد.

كانت بناته الصغار يرفعن أكفهن الصغيرة بعد الصلوات والطواف وأوقات الأسحار يدعون لوالدهن العزيز بالفرج، فقد اشتد الضيق بالأسرة حتى بدا وظهر للصغار صعوبة العيش بهذه الطريقة مع محاولة الوالدين إخفاء ذلك عليهم، فأدركوا أن الحالة عصيبة جدا، ولكن لا فرار منها، فهي ضريبة تمسكه بهذه الأرض، وضريبة عشقه إياها والمسجد الحرام والكعبة، لم يكونوا معارضين أو معترضين على موقفه، بل بالعكس كانوا مؤيدين له كامل التأييد، إذ أن عشق هذه الأشياء تربع في قلوبهن الصغيرة الطاهرة كما تربع في قلبي والديهن، فكانت الأكف الصغيرة التي ترفع للدعاء إلى الله بعدم إخراجهم من هذه الأرض وبالفرج لوالدهن لم تكن ترتد إلا وهي مليئة بالدموع، دموع من أعين صغيرة في وجوه صغيرة في أجسام صغيرة.

المرضى كانوا يدعون له، والذين كان يعفيهم من مقابل الحقن لضيق حالهم كانوا يدعون له، وأطفاله الصغار دموعهم على خدودهم من كثرة الابتهال، وزوجته التي كانت تخفي دموعها وراء ابتساماتها لرفع معنويات الأسرة كان موعدها مع الدعاء في المسجد الحرام وقت السحر، أما هو فكان كثير التشبث بأستار الكعبة والملتزم : أن يتقبل الله تضحيتهم بالحياة لأجل أرض ومسجد وبيت. فيا ترى هل كان لذلك أثر ؟

مكة حرسها الله كانت ولا زالت مليئة بأهل الخير الذين نصبهم الله لقضاء الحوائج، ومن هؤلاء رجال كانوا يعرفون ذلك الرجل، ويدركون عظيم تضحيته، والطيور على أشكالها تقع، فسعوا في مساعدته عند ولاة أمر هذه البلدة المباركة، فتحصل على وظيفة، وكان هذا فرجا مشعرا وممهدا لمجيء فرج أعظم منه، كقطرات المطر تسبق الوابل، فسعى أهل الخير كذلك ــ والله لا يضيع عمل العاملين والمحسنين ــ، حتى جاءت الموافقة من الحكومة العلية السعودية بمنح ذلك الهندي الجنسية السعودية.

توظف في الوحدة الصحية المدرسية، وبارك الله في أولاده سواء الذين ولدوا قبل الجنسية السعودية أو بعدها، وأغدق عليهم الخيرات والبركات، وبارك في رزقه، ووسع في عيشه، وأقبلت عليه الدنيا بوجه باسم بعد طول عبوسها، ووفقه الله لتربية أولاده الذكور والإناث وتعليمهم أحسن التعليم، وحصل التعويض عما فات فوق كل تصور وتوقع، ومن المعلوم أن الكريم إذا أعطى فاق عطاؤه عقول السائلين.

توظف الكبار من أولاده بعد إكمالهم التعليم، فزاد الخير حتى استقل الجميع بمسكن (فيلا) يمتلكونه، بعد تنقلاتهم العديدة في مساكن الإيجار، وانتعش الحال كثيرا، حتى ارتقت الأسرة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الغنية، وصار الجميع يتذكر الأيام الخوالي كذكرى مريرة في حياتهم، وصار الأولاد كثيرا ما يقلبون عيونهم في أكفهم قائلين كانت هذه الأكف يوما ما صغيرة لكنها كانت تمتلئ بالدموع، فالحمد لله الذي استجاب دعاءنا وأبقانا بمنه وفضله جيران مسجده وبيته.

لم يتم ذلك الرجل في مسكنه الجديد المملوك سنة بتمامها، فقد أدى رسالته على أكمل وجه، وأنقذ الباخرة الكبيرة من الغرق، وجرها حتى أوصلها إلى ساحل الأمان، فلم تبق في قلبه حسرة على شيء سوى تخوف من الموت خارج هذه الأرض التي ضحى لأجلها ما ضحى، فاستجاب الله دعاءه كذلك، وقبل إتمام سنة من سكناه بالمسكن الجديد كانت المعلاة ــ مقابر أهل مكة ــ تضم جسده، وقلبه مطمئن لطول نومه في جوف الأرض التي أحبها، ولكون أولاده الصغار الذين عاشوا حياة تعيسة وحرموا من طفولتهم، يعيشون حياة الرخاء والرغد والسعة، والأموال بين أيديهم، وكراسي المناصب تحتهم، والصغار الذين لا زالوا في طريق التعلم سيلحقونهم بإذن الله.

الكثير لم يكن يعرف عن هذا الرجل، وعن حياته، وعن تضحيته لمعشوقته مكة، وعن قوة اعتقاده بالله، وصدق توكله عليه، حتى مضى على وفاته خمس وعشرون سنة فقام أصغر أولاده وآخرهم رؤية له بالكتابة والتعريف عنه في حسابه الخاص على الفيس بوك..........أعرفتم من هذا الرجل ؟. نعم إنه هو... رجل من الهند عشق مكة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق