الاثنين، 4 يونيو 2012

(6) النظارات السوداء وانقلاب الحقائق!.. Dr.Tariq Ali






عندما وضعتُ العَدَسات الشمسية السوداء على نظارتي الطبية أولَ مرة لم أَعُدْ أرَ الحقيقةَ، وإلى الآن كلما أَضَعُها يَتَعَكَّرُ الصفاءُ، فأرى الخارجَ مُظلِما مُخيفا أسودَ، فلا الوجودُ هو ذاك الوجودُ، ولا الوجوهُ هي تلك الوجوهُ، وإذا نَزَعْتُها عادَ كلُّ شيءٍ إلى صفائِه، فأرى الوجودَ صافيا واضحا ناصعا، وأرى الوجوهَ بيضاءَ نقيَّةً.

كثيرٌ من الأشياءِ وُضِعَتْ مُقابِلَها النظاراتُ السوداءُ على العيون، فلا تراها العيون إلا سوادا في سواد.

كثيرٌ من الناس يَلبسُون نظاراتٍ سوداءَ عندَ رؤيتِهِم مفاهيمَ ومبادئَ مُعيَّنةٍ، فالراقي منهم يُخَطِّئُ هذا المفهومَ، والمُتَوَسِّطُ الرُّقِيِّ يُحَذِّرُ منه، وفاقِدُ الرُّقِيِّ بالكُليةِ يُحارِبُه، في حِينِ أنّ هذه المفاهيمَ والمبادئَ قد تكونُ صحيحةً في ذاتِها، أو صحيحةً عندَ مَن تَبَنّاها وَفْقَا لظروفِه، أو على الأقل صحيحةً بوجهٍ من الوُجوه، إذا لَبِسنا نظارةً سوداءَ تُجاه مفهومٍ من المفاهيم، فلماذا لا نُفكِّرُ في نَزْعِها كذلك؟ ها نحن قد نظرنا إليه بالنظارةِ السوداءِ، فَلِمَ لا نُجَرِّبُ النظرَ إليه مِن غيرِها ؟، أو المسألةُ أننا إذا اتّخَذْنا موقِفا سلبيَّا مِن مبدأٍ من المبادئ أو مفهومٍ من المفاهيم يَصْعُبُ علينا التزحْزُحُ من موقِفِنا ؟ (أُسمّي هذا النوعَ من المواقِفِ بالجُمودِ، بل بالغُلُوِّ في الجُمود).

كثيرٌ من الناس يَسْتَقُونَ معلوماتِهم مِن قَنَوَاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ تُعَدُّ في غايةِ السَّذاجَة والسطحِيَّةِ والبِدائِيَّةِ ـــ كأغلبِ قنواتِ التعليمِ النظامي مثلا، أقولُ أغلبُ لا كلُّ ـــ، يا سادةُ : التعليمُ النظامي أغلبُ قنواتِه تُسَلِّطُ الأضواءَ على القضايا فقط دونَ الإحاطةِ بها، خصوصا فيما يتعلق بالجانِب النظري، فلا يَظُنَّنَ أحدٌ أنَّ ما تَحَصَّلَه من معلوماتٍ من خلال المناهجِ التعليميةِ يُغنيه عن البحثِ والتنقيبِ والتفتيشِ فيها، فمثلا يَظُنُّ البعضُ أنَّ المسائلَ المطروحةَ في منهج النحو والصرف تَجْعَلُ منه سيبويهَ، أو أنه أخذَ بزِمامِ وخِطامِ علم النحو والصرف، في حِينِ أنّ تلك المسائلَ لا تُؤَهِّلُ دارِسَها إلا لأنْ يكونَ طالبا مُبْتَدِأً في مدرسة النحو والصرف.

وخُذْ مثالا آخر: مناهج التاريخ، فيظنُّ البعضُ أنَّ القُصاصاتِ والمُرَقَّعاتِ الموجودةَ في المنهج عن معركةٍ من المعارك أو حادثةٍ من الحوادث أو دولةٍ من الدول مُسْتَوفِيَةٌ مُحيطةٌ بها، أو أنّ السِّيَرَ المُختصَرةَ للأعلام فيها كافيةٌ للتعرُّفِ جيدا عليها، في حِينِ أنها لا تَعدُو أن تكونَ مُختصَراتٍ مُعتصَراتٍ من المصادر الأصلية، غُرْبِلَتْ غَربلةً يسهُلُ البَلْعُ معها، وقِسْ على ذلك بقيةَ المناهج، ثم قِسْ على ذلك بقيةَ القنواتِ السطحيَّةِ، كالقنواتِ المرئية أو السمعية أو الصحف والمجلات.

يا سادة : من أرادَ المعلومةَ صحيحةً كاملةً مُحيطةً مُستغرِقةً فعليه أنْ يُلازِمَ أوّلا أهلَ الاختصاصِ ويأخُذَ عنهم، ثم يَغوصُ في كُتبِهم، ولا يكتفي بمَرجِع ولا مَرجِعين ولا ثلاثة، وإنما يَجري وراءَ المعلومةَ رافِعاً عن مُحَيَّاها سِتارا ستارا حتى تَبدوَ طلعتُها كطلعة الشمس، وبعدَ هذا كلِّه يَضَعُ احتمالا أقَلُّه نِصفٌ في المئة بأنَّ ما تَوَصَّلَ إليه عن هذه المعلومة قد يكونُ خطأً، لأنَّ ما تَوَصَّلَ إليه وإنْ كان بَعْدَ سَبْرِ الأغوار إلا أنه لا يَعْدُو أن يكونَ اجتهادا شخصيا، والاجتهاداتُ الشخصية لا يُقالُ وراءَها (صدق الله العظيم)!..

فافهموا أوّلا هذه المقدمةَ حتى تفهموا الباقي. لكنّنا مُجتمَعٌ تَعَوَّدَ على التقليد والترديد، ما قالَه آباؤنا أو مُعَلِّمُونا أو أهلُ بلدتِنا تَنْشَلُّ عندَه العقولُ وتَخْوَى أمامَه القُوى الفكريةُ وتَخْمَدُ له الطاقاتُ البشريةُ، فَنَحتوي قولَهم بالتقليد، ثم نتحوَّلُ إلى ببغاواتٍ ونُردِّدُ قولَهم مِن غيرِ تمحيصٍ ولا تحقيقٍ ولا تفتيشٍ ولا تنقيبٍ ولا في التفَكُّرِ فيه مرَّةً في عُمْرِنا. لماذا نتغافلُ عن الضوابطِ العِلميَّةِ والموازينِ العقلية أمامَ المعلوماتِ الطائشة؟، أنا لا أُشَكِّكُ في القنوات التعليمية أو المعرفية، سواءً كانت تلك القنواتُ في شكل أُسرةٍ أو مؤسسة تعليمية أو ثقافةِ مجتمعٍ، وإنما أُحاول تأسيسَ منهجيةٍ علميةٍ للتعاملِ مع المعلومات.

مؤسساتُنا التعليميةُ لم تَأْلُ جُهداً في جمع المعلومات، وتسهيلِها للطلاب، ولكنْ مهما فَعَلَتْ فهي لا تعدو أن تكونَ شخصيةً تُعَبِّرُ عن رأيِها، ومِن حقِّ العقل والعلم أن يُخالِفَها بكلِّ احترامٍ وبلا ازدراءٍ، كذلك المجتمع، ربما لا يُحبِّذُ رؤيةَ الشمس، أو تَعَوَّدَ على عدمِ رؤيتِها، لكنْ لا يَحِقُّ له أنْ يمنعَ مَن حاولَ خلعَ نظارتِه السوداء لرؤيتِها. الحقائقُ كالشمسِ ساطعةٌ، تَحولُ بينَنا وبينَها نظاراتُنا السوداءُ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق